لم يعد من الممكن النظر إلى مفاوضات ترسيم الحدود البحرية، بمعزل عن عملية إرسال "حزب الله" المسيّرات، يوم السبت الماضي، إلى المنطقة المتنازع عليها التي تشمل حقل كاريش، نظراً إلى التداعيات التي تركتها هذه العملية على الصعيدين المحلي والخارجي.
من حيث المبدأ، هذه العملية تصب في خانة المعادلة التي يتمسك بها، بشكل علني، كل من "حزب الله" و"التيار الوطني الحر"، أي منع الإنتاج من الحقل المذكور قبل الوصول إلى إتفاق مع لبنان، خصوصاً بعد أن سعت تل أبيب للإستفادة من الطرح اللبناني، الذي سلّم إلى الوسيط الأميركي آموس هوكشتين في زيارته الماضية إلى بيروت، لإخراج الحقل المذكور من دائرة المفاوضات، من دون التسليم بحقّ لبنان في حقل قانا.
في هذا السياق، تشير مصادر مطلعة، عبر "النشرة"، إلى أن السلوك الإسرائيلي يعني إدخال بيروت في "فخ" المفاوضات الطويلة، التي تكون فيها تل أبيب قد باشرت الإنتاج من كاريش، في مقابل إنتظار الإنتهاء من المفاوضات التي ستعمد فيها الأخيرة إلى المماطلة، على قاعدة أنها ليست الجانب المعني بالإستعجال، الأمر الذي يضعف موقف لبنان التفاوضي، نظراً إلى أنه سيكون مضطراً لتقديم المزيد من التنازلات.
في قراءة المصادر نفسها، ما أقدم عليه "حزب الله" يعني إعادة التذكير، بشكل مباشر، بأن الطرح اللبناني لا يمكن أن يُقسم، وبالتالي لا يستطيع أن يأخذ الإسرائيلي منه ما يريد، في مقابل تجاهله مطالب بيروت، وتؤكد أن هذه الخطوة لم يكن الهدف منها التصعيد، نظراً إلى أن المسيّرات المُرسلة لم تكن مسلحة، وبالتالي الهدف هو تعزيز موقف لبنان بالدرجة الأولى، لا سيما أن الحزب يدرك جيداً طريقة التعامل مع تل أبيب في هذا المجال.
في الأيام التي تلت هذه العمليّة، من الضروري التوقّف عند 3 مؤشرات: الأول هو عودة الإنقسام اللبناني، الّذي قد يكون التعبير الأساسي عنه البيان الصادر بعد إجتماع رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي مع وزير الخارجية والمغتربين عبد الله بو حبيب، أما الثاني فهو السعي الإسرائيلي إلى إستغلال الواقع الأوروبي للضغط على لبنان، بينما الثالث هو تحديد إطار زمني لمسار المفاوضات، من دون الإعلان رسمياً عن ذلك، هو شهر أيلول.
بعيداً عن المؤشّر الأول، الذي على ما يبدو ليس هناك من نية للتصعيد بسببه، ترى المصادر المطلعة أن العامل الثاني لا يمكن تجاهله، بالنظر إلى أن تل أبيب سعت إلى هذا الأمر عبر مسارين: الأول التلميح بإمكانيّة أن تعمد الشركة اليونانيّة بالدفع لجهة إصدار الإتحاد الأوروبي قراراً، يتعلق بعمل الشركات الأوروبية في الجانب اللبناني، أما الثاني فهو الموقف الذي صدر عن رئيس الوزراء الإسرائيلي يائير لابيد، الذي أثار نشاط "حزب الله" مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، مع العلم أنّ باريس تعتبر الدولة الغربيّة الكبرى الوحيدة التي لا تزال تحتفظ بقنوات إتصال مع الحزب.
في حصيلة الإتصالات والمشاورات، يتبيّن أن تل أبيب تريد سحب ورقة "حزب الله" من دائرة المفاوضات، أيّ إبعاد ورقة قوة من الممكن أن يستخدمها لبنان أو على الأقل التهديد بها، الأمر الذي بات من الواضح أنّ الجانب الأوروبي لا يعارضه، بحسب ما تؤكد المصادر نفسها، لكن الأهم يبقى المؤشر الثالث، أي الإطار الزمني الذي ورد في أحد مواقف وزير الخارجية والمغتربين، ولاحقاً تم التأكيد عليه، نقلاً عن لسان وزيرة الطاقة الإسرائيلية كارين الحرار، عبر الإشارة إلى أنّ عمليّة الإستخراج من كاريش ستبدأ في أيلول.
في المحصّلة، الصورة الحاليّة توحي بأنّ مسار الترسيم سيكون، في الشهرين المقبلين، أمام مرحلة حاسمة، ستلعب فيها الضغوط الخارجيّة دوراً كبيراً للدفع نحو الوصول إلى إتفاق بين الجانبين، إلا إذا نجحت تل أبيب في مخطّط إدخال لبنان بمفاوضات طويلة الآمد، لن تكون في صالحه، مع العلم أن بيروت ستكون، في الفترة نفسها، أمام ضغوط أخرى، تتعلق بالإستحقاقات الدستوريّة المنتظرة، بالإضافة إلى الواقعين الإقتصادي والإجتماعي.